دراسات إسلامية 

حاجات الإنسان بين المحدودية واللامحدودية

(2/2)

 

 

 

بقلم : د. شوقي أحمد دنيا

 

1/3 موقف الاقتصاد الإسلامي :

     للتعرف على موقف الاقتصاد الإسلامي من قضية محدودية وعدم محدودية الحاجات معرفة علمية علينا أن نتعرف على نوعية العلاقة لديه بين الحاجة والرغبة، ثم نتعرف على المعيار الذي نحتكم إليه في تحديد ما هو حاجة مما ليس بحاجة. وفي ضوء ذلك نتعرف على المفهوم الإسلامي للحاجة ومن ثم يمكن معرفة موقف الإسلام من المسألة المطروحة للبحث وهي محدودية الحاجة وعدم محدوديتها. وأخيرًا ما الذي يتريب على ذلك من آثار.

     وهناك نقطة بدء يجب أخذها في الحسبان: وهي أن الأقتصاد في الإسلام إنما يرتكز على عقيدة الإسلام وينبثق من شريعته. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنما نزل القرآن الكريم وبينة السنة الشريفة كل ذلك بلسان عربي مبين. والمضمون الاقتصادي لذلك أن تضبط مصطلحات ومضامين الاقتصاد الإسلامي بالضوابط الإسلامية، وأن تستخدم الألفاظ والكلمات في إطار المعنى اللغوي لها وسوف نرى أهمية تلك النقطة جلية واضحة عند تناولنا لكل من مصطلح الحاجة والرغبة وكذلك مصطلح الندوة.

     ماهي حقيقة العلاقة بين تعبير الرغبة من حيث اللغة ومن حيث الاصطلاح الشرعي؟.

     من حيث اللغة نجد مادة الحاجة تدور حول: الفقر والطلب. والمحوج. – المعدم وهي في الأصل الرغبة التي تحتاج إلى إزالتها.

     أما المفهوم اللغوي للرغبة فهو يدور حول: الإرادة والميل، أوهو الضراعة والمسألة. والرغيبة العطاء الكثير. والرغب كثرة الأكل وشدة النهم وأرض رغاب لا تسيل إلا من مطر كثير. وواد رغيب ضخم واسع، والرغيب الواسع الجوف الأكول من الناس، والمراغب الأطماع، ورغب النفس سعة الأمل وطلب الكثير، وكل ما اتسع فقد رغب، والأصل في الرغبة: السعة في الشيء(1).

     نلاحظ أن هناك فروقًا جوهرية بين التعبيرين ومادتهما، رغم ما بينهما من صلة. وقد ظهر ما يستبطنه مصطلح الرغبة من الشره والنهم والتوسع والطمع، مما لا نجد له ظهورًا في مادة الحاجة.

     والأمر كذلك على مستوى الاصطلاح الشرعي. وللتعرف على ذلك نستعرض بعض النصوص والأقوال ومن ثم نخرج بقاعدة عامة يمكن اعتبارها معيارًا نحتكم إليه للتعرف على حاجات الإنسان ومدى علاقتها بالرغبات ومدى محدوديتها أو عدم محدوديتها.

     في القرآن الكريم وجدنا لمصطلح الحاجة ومشتقاتها مواطن ولمصطلح الرغبة وما يرادفها ويقترب منها مواطن. قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِيْهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوْا عَلَيْهَا حَاجَةً فِيْ صُدُوْرِكُمْ﴾(2). وقال تعالى: ﴿وَلاَ يَجِدُوْنَ فِيْ صُدُوْرِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوْتُوْا﴾(3) وفي سياقه للنعم المخلوقة يؤكد على أنها خُلِقَتْ من أجل دفع وسد حاجات حقيقية للإنسان. ومع إشباع تلك الحاجة لا حرج في التمتع باللذة والبهجة قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِيْهَا جَمَالٌ حِيْنَ تُرِيْحُوْنَ وَحِيْنَ تَسْرَحُوْنَ﴾(4) وقال تعالى: ﴿فَأَنْبَتْنَا بِه حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾(5).

          أما الرغبة بما تحمله من الميل الكبير إلى الشيء بغض النظر عن طبيعة هذا الشيء، وكل ما فيه أنه مشتهى لما فيه من اللذة ليس إلا فإن مواطن تلك في القرآن الكريم بالنسبة للدنيا هي مواطن ذم وتنفير. قال تعالى : ﴿وَاللهُ يُرِيْدُ أَنْ يَّتُوْبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيْدُ الَّذِيْنَ يَتَّبِعُوْنَ الشَّهْوَاتِ أَنْ تَمِيْلُوْا مَيْلاً عَظِيْمًا﴾(6) وقال تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَّعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوْا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾(7) ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُوْنَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّنْ دُوْنِ النِّسَآءِ﴾(8) وهكذا نجد القرآن الكريم يفرق بوضوح بين هذا التعبيرات ومضامينها، ففيما يتعلق بالحاجات نجده يصرح بأن عدم إشباعها يوقع الإنسان في مشقة قال تعالى: ﴿وَتَحْمِلُ أَثـْقَالَكُمْ إِلىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُوْنُوْا بَالِغِيْهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ﴾(9) ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيْلَ تَقِيْكُمْ اَلْحَرَّ﴾(10).

     أما فيما يتعلق بمجرد الشهوات والرغبات لذاتها فنجد الذم الصريح. فهل بعد ذلك نأتي ونقول أو نسمع لقول من يقول: إنه لا خلاف بين الحاجات والرغبات والشهوات!!).

     والأمر في السنة الشريفة لا يخالف ذلك. وهذه بعض الأحاديث والآثار ذات الدلالة الواضحة. (إن لله عبادًا خلقهم لحوائج الناس يفزع الناس إليهم في حوائجهم أولئك الآمنون يوم القيامة) فهل تلك المنزلة الرفيعة لهؤلاء تتفق ومفهوم الحاجة بمعنى الرغبة والشره والتوسع.

     وقد رُوِي (كيف أنتم إذا مرج الدين وظهرت الرغبة وقلت العفة) وقد قالوا إن ظهور الرغبة يعني كثرة السؤال والحرص على الجمع مع منع الحق، كما رُوِي (بئس العون على الدين قلب نخيب – جبان – وبطن رغيب) وفي الآثر و (كيف بالمرء سرفًا أن يأكل كل ما يشتهي) وفي الحديث الشريف (حُفَّتِ الجنةُ بالمكارة وحُفَّتِ النارُ بالشهوات) (لو كان لابن آدم واد من ذهب لأحبَّ أن يكون له ثان ولو كان له ثان لأحب أن يكون له ثالث) هذا قليل من كثير يبين لنا بوضوح اختلاف الحاجات عن مجرد الرغبات والشهوات.

     ولنقف قليلاً عند هذا الحوار لنحاكم عنده سلوكنا. لقي عمر رضي الله عنه جابر رضي الله عنه وقد أمسك بيده لحمًا فقال له ما هذا يا جابر؟ قال: لحم اشتهاه أهلي فاشتريته فقال: أوكلما اشتهيتم؟)(11).

     وقد تكلَّم الفقهاء في مواطن شتى عن حاجات الإنسان كما تناولوا علاقتها باللذة والألم، وبينوا أن اللذة والألم هي أحاسيس خلقها الله لتكون حادية لتناول الشيء ودافعه لطلبه وليس على أنها هي بنفسها تمثل الحاجة، فللحاجة مضمونها ولها وظيفتها الموضوعية والتي يمكن أن يتعرف عليها بطريقة رشيدة . فمثلاً للجوع ألم وللطعام لذة. لكن هل مجرد الأثر الحقيقي للجوع هو مجرد الآلام، وهل الأثر الحقيقي للطعام هو مجرد أحداث اللذات؟ لا فقد يزول الألم ومع ذلك فإن خطر الجوع على تهدم الجسم وتحلله قائم، وقد لا تكون هناك لذة ومع ذلك فإن خطر الجوع على تهدم الجسم وتحلله قائم، وقد لاتكون هناك لذة ومع ذلك يقوم الطعام ببناء الجسم وتجديد ما فقد منه. إذن هناك مهمة أو وظيفة موضوعية للحاجة مغايرة للذة والألم، يقول الإمام الشاطبي: (إن الله تعالى وضع في الأمور المتناولة إيجابًا أو ندبًا أشياء من المستلذات الحاملة على تناول تلك الأمور لتكون اللذات كالحادي إلى القيام بتلك الأمور)(12). كما أنه لا إرتباط على طول الخط بين اللذات والآلام وبين الخير والسعادة . يقول تعالى ﴿وَعَسـٰـى أَنْ تَكْرَهُوْا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌلَّكُمْ وَعَسـٰـى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرُّلَّكُمْ﴾(13) ومما يدل دلالة بالغة على أنه في ظل الزمان والمكان يمكن تحديد حاجات الفرد التي يجب العمل على إشباعها تشريع الزكاة. وللفقهاء في مجال المكلف بها والمستحق لها تحليل رائع يفهم منه بوضوح إمكانية حصر وتحديد الحاجات لقد قالوا إنها لا تجب في مشغول بحاجة أصلية ، وقالوا إن المكلف بها هو من ملك نصابًا بعد إشباع حاجاته الأصلية ، وقال بعضهم يعطي منها الفقير بقدر ما يغتني به أي بقدر ما يسد حاجاته .

     ويضاف إلى ذلك حديث الإسلام الطويل عن الإسراف والتبذير وعن الترف، ألا يعني هذا أن هناك تجاوزًا في الاستخدام عما هو قدر الحاجة؟ وهل لو كان كل مرغوب ينبغي إشباعه هل كان هناك مجال للقول بالإسراف والتبذير والترف؟؟؟

     إن القرآن الكريم نص بصريح الآية على أنه الإنفاق علىالغير إنما يكون من العفو ﴿وَيَسْأَلُوْنَكَ مَاذَا يُنْفِقُوْنَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ وقد قال المفسرون إن العفو هو مازاد عن الحاجة فهل يمكن الزيادة على شيء غير محدود؟؟؟ وننقل هنا بعض عبارات الفقهاء لدلالتها البالغة يقول الإمام الرملي: (الفقير من لا مال له ولا كسب يقع موقعًا من حاجته من مطعم وملبس ومسكن وسائر ما لا بد منه لنفسه ولمن يمونه ولا يمنع من الفقر مسكنه وثيابه، ولو للتجمل بها في بعض أيام السنة، وإن تعددت. وحلى المرأة اللائق بها لا يمنع فقرها، فهو من حاجاته الأصيلة..)(14) وقد وضع علماء الإسلام تعريفًا للحاجة الأصلية هو (ما يدفع الهلاك عن الإنسان تحقيقًا أو تقديرًا فالثاني كالدين، والأول كالنفقة ودور السكنى وآلات الحرب والثياب المحتاج إليها وكآلات الحرفة، وأثاث المنزل ودواب الركوب وكتب العلم لأهلها)(15) ولا يحمل تقييد الحاجة بالأصلية مضمون أدنى مستوى معيشي ممكن – حد الكفاف) فهذا لا يُعْتَبَرُ غنى ، بل المقصود الحاجات التي تحتاج إلى إشباع، حيث يرتب عدم إشباعها ضررًا يلحق بالشخص، أما الكفاف وعدمه فهذا يتعلق بمستوى الإشباع، في ضوء هذا العرض الموجز هل يمكن صياغة قاعدة كلية تمثل المعيار أو الأساس النظري أو القانون أو الضابط لحاجات الإنسان من منظور إسلامي؟

     في كتابات مضت قلنا إن معرفة ذلك يتم من خلال التعرف على طبيعة الإنسان وفطرته وعلى وظيفته في الحياة ثم غايته. وكل ما تتوقف عليه تلك العناصر الثلاث أو تتطلبه فهو حاجة للإنسان لا مفر من دفعها إن أراد الاستقرار والتوازن والسعادة(16). ومازال يمثل هذا القول في رأينا خير مرشد وأقوم ضابط نتعرف من خلاله على كل ما هو حاجة للإنسان على اختلاف الأزمنة وتنوع الأماكن، والجرى وراء عدم الاضطراب الجسمي والنفسي فقط كما ذهب علم النفس خطأ وقصور، وأشد خطأ منه الجري وراء إشارات اللذة والألم فحسب كما ذهب علم الاقتصاد الوضعي .

     وإذا حاولنا التعرض لتلك المحددات الثلاثة بقدر كبير من الإجمال فإننا نقول إن فطرة الإنسان وطبيعته ليست مادية فسيولوجية محضة كما أنها ليست روحية محضة وبالمثل ليست فكرية أو نفسية محضة. وفي نفس الوقت فإن فطرة الإنسان تأبى الاعتزال والتفرد والوحدة إن الإنسان كل «مكون من تلك العناصر كلها» وإذا ساغ لنا أن نستعير هنا بعض مصطلحات الكيمياء فإننا نقول إن الإنسان هو مركب من تلك العناصر المختلفة، ومعنى ذلك أنه ليس عنصرًا واحدًا كما أنه ليس خليطاً من تلك العناصر بل هو مركب، بالمفهوم الكيميائي لهذا المصطلح . هذا جانب من فطرته أما الجانب الآخر فهو عنصر الاحتياج فهو محتاج بصفة دائمة إلى المحافظة على إنسانيته المركبة من تلك العناصر بل وعلى ترقيتها وتزكيتها .

     ولقد فهم بعض العلماء من الآية الكريمة ﴿يآ أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ﴾ فهما يماثل هذا أو قريبًا(17) منه والذي يعيننا أن تحديد وتوضيح فطرة الإنسان وطبيعته على هذا النحو – الذي أرجو أن يكون صائبًا – ليسهم في التعرف الموضوعي السليم على حاجات الإنسان ، إنها كل ما يحافظ على تلك الفطرة ويزكيها. وكل ماعدا ذلك لا يدخل في عداد الحاجات وإن سُمِّي بالرغبات والشهوات.

     هذا عن فطرة الإنسان فماذا عن وظيفته؟ إنها خلافة الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّيْ جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيْفَةً﴾(18).

     ﴿وَهُوَ الَّذِيْ جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ﴾(19) ﴿ثـُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَّعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُوْنَ﴾(20).

     والعمران يتطلب من الإنسان العمل والجهد والنشاط والسعي والابتغاء. ومعنى ذلك أن الإنسان ليس ضيفًا على الدنيا بل حاكم لها ومهيمن على أرضها بما منح من خلافة ، كما أنه لم يجئ إلى الدنيا ليعبث فيها ويلهو ويفسد فالسلبية مرفوضة وإن لبست ثوب التصوف ، والإفساد والعبث مرفوضان وإن لبسا ثوب التقدم والنمو. إذ كلاهما مناف لمفهوم قاعدة الخلافة. ويترتب على ذلك أن كل مايتطلبه قيام الإنسان بتلك الوظيفة يمثل حاجة له وبدونها يتعثر في أداء مهمته. أما عن غايته وهدفه فهو عبادة الله وطاعته ونيل ثوابه ورضوانه. إن ذلك لايُعْتَبَرُ ترفًا أو مجرد رغبة من الإنسان بل هو حاجة فطرية لاتقل عن بقية حاجاته أهمية وإلحاحًا،(21) وإن عاند في ذلك المعاندون. وأكبر برهان على ذلك أن قشرة العند سرعان ماتذوب عند الخطر، إذ عنده تتفجر الفطرة ممزقة كل ثوب من عناد أو جحود داعية الله تعالى ملتجئة إليه دون سواه .

     ومعنى ذلك أن للإنسان حاجاته الروحية التي يحتاجها كإنسان متكامل وليس مجرد روح.

     إذن حاجات الإنسان التي تتطلبها حياته المتزنة المستقرة تتحدد من خلال فطرته ووظيفته وغايته. وهذه هي التي يجب أن يسعى الإنسان بكل نشاطاته لإشباعها ، لا أن يتركها ويجري وراء أمور أخرى ضررها أكبر من نفعها ، إن كان لها نفع.

     ومادمنا قد رضينا بهذا معيارًا فهل حاجات الإنسان محدودة أم غير محدودة؟

     من حيث حصر الحاجات في عدد محدد لا يزيد ولا ينقص فإننا لم نجد آية صريحة تدل على ذلك، ولا على أن ماتناوله القرآن الكريم في هذا الصدد هو علىسبيل الحصر، والأمر كذلك في السنة الشريفة، وإن كان تناول القرآن الكريم لما تناوله من حاجات يمكن أن يفهم منه أن تلك هي أصول الحاجات، وإلا فلو كانت هناك حاجة أصلية أخرى تتوقف عليها حياة الإنسان لما أغفلها، من أمهات الحاجات التي يمكن التعرف عليها من دراسة القرآن والسنة الطعام والماء والملبس والمسكن والجنس (النكاح) والتعليم والصحة والانتقال والأمن والزينة والمكانة والانتماء وقد حاول بعض العلماء تحديد أصول الحاجات، ومنهم الإمام الغزالي(22) والعز بن عبد السلام(23) وغيرهم حيث ذكروا نحوًا من ذلك .

     ومع ذلك فإنه إذا أمكن حصر وتحديد أصول الحاجات إلا أن ذلك لا يعني ثبات مشبعاتها نوعًا وكماً وكيفية حيث أن ذلك متروك لأهل العلم والخبرة في ضوء القاعدة العامة المشار إليها سلفًا وإذن فهناك ارتقاء وتنوع في وسائل الإشباع لكنه محكوم بضوابط موضوعية. إن الاسلام قد ارتقى بالحاجات فجعل لإشباعها مستويات ثلاثة:

1 – المستوى الأول :

     مستوى الإشباع الضروري الذي يمثل حد البقاء وهذا لا يعتد به الإسلام إشباعا بل يطلب ماهو أعلى وأفضل، حيث في هذا المستوى لن تؤمن للإنسان فطرته ووظيفته.

2 – المستوى الثاني :

     هو المستوى الحاجي أو هو أدنى قدر ممكن من خلاله يمكن للإنسان أن يؤدي وظيفته ويحقق غايته. وهذا هو مستوى الإشباع المفضل في الإسلام كما فهمه كثير من العلماء.

3 – المستوى الثالث :

     ومع ذلك فهناك مستوى أرفع كمًا ونوعًا من الإشباع وهو مستوى الكمالية والتحسين والرفه. وهو مقبول إسلاميًا.(24)

     وفوق ذلك لايمكن إلا التدمير والإهلاك والضياع وليس البناء والتزكية ومن ثم فهو محظور وممنوع ، لأنه لا يحقق أي فائدة أو منفعة حقيقة للإنسان بل يجلب له منافع سلبية(25).

     ومرة أخرى إن تلك المستويات تتحدد في كل زمان ومكان في ضوء الضابط الكلي لحاجات الإنسان . ومن ثم فإن ما قد نسمعه هنا بان الإسلام يكمش حاجات الفرد بل ويكبتها ويرجع بها القهقري إن ذلك ماهو إلا هذيان لا يرقى لدرجة النقاش بله الالتفات .

     1/4 – والنتيجة الكلية التي نخلص إليها هنا هي أن حاجات الإنسان لا تتسم بعدم المحدودية ولا بعدم النهائية ؛ بل هي من أي باب أتيت يمكن أن تجد لها أطرًا وضوابط تحددها في ضوء الزمان والمكان .

     فاذا قال لنا علم الاقتصاد الوضعي إن حاجات الإنسان لا نهائية ، وتعامل على هذا الأساس نرفض تلك المقولة ، ويؤيدنا في ذلك علم النفس المختص أصلاً بدراسة حاجات الإنسان . وإذا قال إن رغباته لا نهائية نسلم معه في ذلك، ولكن هل يترتب على فقدان أي رغبة منها التوتر والاختلال؟

     ونقول إن الإسلام بما غرسه في المسلم من عقيدة وقيم وغايات ووظائف جعله يتقبل بنفسه طواعيه على تقليل رغباته إلى أقصى حد ممكن بحيث لا تتجاوز نطاق الحاجة في المستوى المتوسط لإشباعها . فإذا كان لغير المسلمين رأي آخر فلهم رأيهم وشأنهم .

     ولقد كشف القرآن الكريم عن حقيقة هويتهم بقوله: ﴿وَالَّذِيْنَ كَفَرُوْا يَتَمَتَّعُوْنَ وَيَأْكُلُوْنَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَّهُمْ﴾(26) وبينت السنة الكريمة في رمزية بالغة أن المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء(27).

     ومع ذلك وإن كان ولابد من كلمة مقارنة بين موقف الاقتصاد الوضعي والاقتصاد الإسلامي من الحاجات فيمكن القول إن الاقتصاد الوضعي قد جعلها تتمدد في اتجاه واحد على حساب بقية الجوانب . ومن الأخطاء الكبيرة القول بأنه نمَّى حاجات الإنسان، إنه بالأحرى نمَّى رغبات بعض عناصر الإنسان على حساب احتياجات بقية العناصر. أو هو على حد تعبير «فرانسوا بيرد» لم يستهدف كل الإنسان(28).

*  *  *

الهوامش :

(1)       ابن منظور ، لسان العرب، مادة رغب حوج الفيروز آبادي، القاموس المحيط، مادة رغب حورج الراغب الأصفهاني مفردات القرآن، مادة رغب – حوج الزبيدي، تاج العروس، مادة رغب – حوج .

(2)          سورة غافر الآية رقم : 80.

(3)          سورة الحشر الآية رقم : 19.

(4)          سورة النحل الآية رقم : 6.

(5)          سورة النمل الآية رقم : 60.

(6)          سورة النساء الآية رقم : 27.

(7)          سورة مريم الآية رقم : 59.

(8)          سورة الأعراف الآية رقم : 81.

(9)          سورة النحل الآية رقم : 7.

(10)      سورة النحل الآية رقم : 81.

(11)      ابن الجوزي (تاريخ عمر) ص 177. المطبعة التجارية الكبرى .

(12)      الشاطبي ، الموافقات ص 343 جذ، المكتبة التجارية الكبرى بدون تاريخ النشر.

- للراغب (المفردات) ص 270 دار المعرفة بيروت.

(13)      سورة البقرة ، الآية : 216.

(14)      الرملي ، نهاية المحتاج. ص 150 ج6 دار إحياء التراث العربي بدون تاريخ نشر .

(15)      ابن نجيم ، البحر الرائق ص 222 ج2 دار المعرفة. بيروت الطبعة الثانية .

(16)      انظر الإسلام والتنمية الاقتصادية . ص 46-55 الفكر العربي القاهرة 1979 – تمويل التنمية في الاقتصاد الإسلامي ص 76-80 للمؤلف مؤسسة الرسالة بيروت.

(17)      الراغب . المفردات ص 383 مرجع سابق .

(18)      سورة البقرة الآية رقم : 30.

(19)      سورة فاطر الآية رقم : 39.

(20)      يونس الآية رقم : 14.

(21)      محمد باقر الصدر ، إقتصادنا ص 278 ج1 – دار الفكر – بيروت 1969م .

(22)      الغزالي ، إحياء علوم الدين . ص 225 ج3، ص 214 د4، ص 230 ج4، دار المعرفة .

(23)      العز بن عبد السلام – قواعد الأحكام. ص60 دارالمعرفة – بيروت.

(24)      الغزالي ، مرجع سابق ، ص 108 ج2، ص 222 ج3.

ابن الحسن ، الكسب ص 74-104. نشر عبد الهادي حرصوني ، دمشق 1980م .

(25)      ابن الحسن ، نفس المصدر والمكان .

(26)      سورة محمد – الآية رقم : 12.

(27)      رواه البخاري .

(28)      فرانسوا بيرد والاقتصادي والمجتمع ، ترجمة كمال غالي ص 12. وزارة الثقافة دمشق 1982.

 

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان - شوال 1427هـ = أكتوبر - نوفمبر 2006م ، العـدد : 9-10 ، السنـة : 30.